الأحرف السبعة والقراءات العشر.. قصة القرآن الكريم
قبل الشروع في تعلم أحكام التجويد برواية ورش أو حفص مثلا أفترض أن الطالب سيتساءل بشكل بديهي فيقول "وما معنى ورش وحفص؟" ذلك أنني طرحت ذات الأسئلة وأنا أتعلم الأحكام، وعلى مدار سنوات عدة لم أستطع فهم القصة بشكل جيد إلى أن دخلت عالم تعليم الأحكام ورأيت أنه لا يصح الانطلاق في تعليمها قبل فهم القصة من البداية.. لهذا أجريت بحثا عن الأحرف السبعة والقراءات العشر وراسلت بعض الأساتذة فاتضحت الصورة عندي أنقلها إليكم في هذه الأسطر.. قراءة ممتعة ♥
كان يا ما كان
كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، تعود بنا عقارب الساعة 1456 سنة إلى الوراء، إلى غار يستغرق الوصول إليه ثلاث ساعات من السير على جبله: غار حراء..
في أعظم حدث تعيشه البشرية، بزغ النور الأعظم الذي سيريها طريقة الحياة السوية، نازلا بأمر من رب البرية، بواسطة أعظم الملائكة على رجل عظيم اصطفاه رب العالمين ليكون اللبنة الأخيرة التي يتم بها بناء النبوة ويكتمل بها دين الله: الإسلام.
نزل القرآن الكريم بأعظم اللغات وأكثرها بلاغة، اللغة العربية، وبالضبط: اللغة العربية القُرَشِيَّة (لغة قريش)، ومن روائعه أنه أعجز نوابغ العرب إذ كان كلاما عربيا فصيحا لكنه ليس بالشعر ولا النثر، كلاما لم تعرف العرب مثله من قبل.. ولأن القبائل العربية كانت ألسنتها مختلفة بعضها ينطق الحاء عينا والبعض لا ينطق الهمزات، والبعض يعبر عن نفس المفهوم بكلمات مختلفة.. خشي النبي ﷺ أن لا يتمكن الناس من فهم القرآن الكريم وحفظه بلغة قريش، لذلك طلب من رب العالمين التخفيف على أمته:
روى مسلم عن أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه- أن النبي ﷺ كان عند أضاءة بني غفار، فأتاه جبريل - عليه السلام- فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال، أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسال الله معافاته ومغرفته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا"
وروى الترمذي عنه قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل إني بُعِثت إلى أُمّة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط، فقال لي: يا محمد القرآن أُنزل على سبعة أحرف"
اختلف العلماء اختلافا كبيرا في معنى "الأحرف" لكن القول الراجح عندهم هو أن الحرف = لغة، أي أن القرآن الكريم أنزل بسبع لغات عربية تستوعب الاختلافات الموجودة بين القبائل العربية ليسهل عليها جميعا فهم وقراءة وحفظ القرآن الكريم رحمة من رب العالمين.
واللغة تتكون من عنصرين لو فهمناهما جيدا استوعبنا بسهولة ما سيأتي: اللغة = لهجة + كلمات
اللهجة:
تعني اختلاف نطق الكلمة الواحدة من قبيلة لأخرى:
البعض ينطق الكلمات المنتهية بالألف المقصورة بالإمالة: موسى => موسى
البعض ينطق الحاء عينا مثل: حتى => عتى
البعض ينطق لام التعريف ميما مثل: البر => امبِرّ
البعض ينطق السين تاءً مثل: الناس => النات
البعض ينطق الكاف سينا أو شينا مثل: كتابك => كتابس، كتابش
ولازال الاختلاف في النطق موجودا إلى الآن من بلد عربي لآخر: مصر تنطق الجيم "ڨ" أي مثلما يُنطق حرف G في كلمة GOD.. مناطق من سوريا تنطق القاف ألفا.. في الجزائر مناطق تنطق القاف مثلما تنطق مصر الجيم، وأخرى تنطقها كافا، وأخرى تنطقها ألفا كأهلنا في تلمسان: قال =< ڨال، كال، آل .. الخ. وعليه، من الصعب أن تغير كل قبيلة لهجتها إلى لهجة قريش، تماما مثلما لا يستطيع إنجليزي أن ينطق حرف الحاء في اسم "محمد"
إذن الكلمات هنا واحدة لم تتغير، إنما تغير نطقها من قبيلة لأخرى.
الكلمات:
أما الاختلاف هنا فلا يكون في النطق بل في بنية الكلمة نفسها، مثلا:
اختلاف في الشكل: يحسَب ---- يحسِب
اختلاف في الإعراب: فتلقى ءادمُ من ربه كلماتٍ ---- فتلقى ءادمَ من ربه كلماتٌ (في الأولى كان "ءادمُ" فاعلا و "كلماتٍ" مفعولا به، أما في الثانية حدث تبادل فصار "ءادمَ" مفعولا به مقدّما، و "كلماتٌ" فاعلا مؤخرا)
اختلاف في كيفية التنقيط: فتبيّنوا ---- فتثبّتوا. (كانت الكلمات تُكتَب بدون نقاط، لم يكن صعبا على العرب أن يقرؤوها وهم أهل الفصاحة والبيان، يفرقون بين الكلمات من خلال السياق)
اختلاف في الألف المدِّية: مَلِكِ ---- مَـٰـلِكِ ---- مَلـَّـٰـكِ
اختلاف في الكلمة كلها للتعبير عن نفس المعنى: صيحة ---- زقية
إذن الكلمات هنا تغيرت في تركيبتها.
ااااه هنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال.. هل هذا يعني أن القرآن الكريم ينزل ويترك الخيار للصحابة ليختاروا النطق أو الكلمات أو التنقيط كما يشاؤون حسب لغتهم وما يرونه مناسبا؟ مممم لا، تعالوا لنفهم ما كان يحدث.
1- نزول القرآن الكريم
كان جبريل - عليه السلام- ينزل بالقرآن الكريم على قلب النبي ﷺ ، فيقرأه رسول الله ﷺ على مجموعة من الصحابة تُعرف باسم "كُتَّاب الوحي" ويأمرهم بكتابته فورا بحضوره.. في ذلك الوقت كانت وسائل الكتابة متمثلة في الجلود (الرقاع) وعظام أكتاف الحيوانات، والألواح الخشبية و الحجارة البيضاء الرقيقة (اللخاف) وأوراق النخيل التي تُكشط لتصبح مهيأة للكتابة (العُسُب).. ما يعني أن القرآن الكريم كُتِب على أشياء متفرقة لا في مصحف واحد..
وكان النبي ﷺ يُملي الآيات على كتاب الوحي ويخبرهم بموقعها وبترتيب السور، ما يعني أن الترتيب الموجود في المصحف (سواء بالنسبة للآيات أو السور) ليس اجتهادا من الصحابة - رضي الله عنهم- بل هو محدد من رب العالمين..
وكان النبي ﷺ يُعلِّم كتاب الوحي كيف يرسمون الكلمات، ولعلنا لاحظنا جميعا اختلافات كثيرة بين إملاء المصحف وإملائنا الذي نعرفه وربما تساءلنا لماذا يُكتب بهذا الشكل؟ ذلك أن طريقة الكتابة محددة من رب العالمين أيضا.
بعد أن يقرا النبي ﷺ ما نزل من القرآن الكريم ويكتبه الصحابة كان يطلب منهم أن يعيدوا قراءة ما كتبوه فيصحح إن أخطأوا ويتأكد من أنهم قد أخذوه بالشكل الصحيح ثم يخرجون به إلى الناس يعلمونهم إياه. رُوِيَ عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- (وقد كان أحد كتّاب الوحي) أن النبي ﷺ كان يُملي عليه الآيات وهو يقوم بكتابتها، فإذا أنهى الكتابة قرأها على النبي ﷺ ، فإن كان بها خطأ صححه ثم خرج بها إلى الناس يعلمهم إياها.
وبهذا نفهم بأن تعلم القرآن الكريم لم يكن يعتمد على المكتوب فقط، بل كان يعتمد أساسا على التلقي السمعي من النبي ﷺ أو ممن سمع منه، ثم يقرأه المتعلم كما سمعه.. ولهذا من المهم في التعليم القرآني الاعتماد على تلقين الأستاذ أولا قبل الحفظ من المصحف المكتوب فالكتابة لا يمكن أن تصحح النطق حتى لو كانت بعض المصاحف توفر هوامش بأحكام الترتيل.
لنعد الآن إلى قصة اختيار الكلمات والقراءة حسب ما يناسب كل قبيلة:
كان جبريل -عليه السلام- ينزل بالوحي مع الخيارات المسموحة للناس: الكلمات وشكلها وتنقيطها ونطقها ومحلها من الإعراب كله محدد من رب العالمين وليس من طرف الصحابة. ولنضرب مثالا يؤكد على هذا الجانب: كلمة "ملك" في سورة الفاتحة يمكننا أن نقرأها "مَلِكِ" أو مَالِكِ" وهذا معروف، لكن نفس الكلمة موجودة في سورة الناس، ومع ذلك لا يمكن بتاتا أن نقرأها "مالك الناس" ! لو كان الاختيار بيد الصحابة لكان متوقعا أن نجد من بينهم من قرأها "مالك الناس"، لكن الاختيار لم يكن بيدهم ولا بيد أحد من البشر، بل رب العالمين هو من حدد القراءات المسموحة وأنزلها على النبي ﷺ، تراعي الاختلافات الموجودة بين القبائل العربية يختار كل صحابي من بينها ما يناسب لسانه ويقرأ به ويعلمه لغيره. تلك الخيارات المتعددة هي التي ولّدت ما نعرفه اليوم باسم "القراءات".
2- العرضة الأخيرة للنبي -صلى الله عليه وسلم-
في نهاية حياته عرض النبي ﷺ القرآن الكريم لآخر مرة في حياته، لكن في تلك العرضة لم يقرأ عددا من الآيات التي كان يقرؤها من قبل، وهي الآيات المعروفة بالآيات المنسوخة، أي أنها كانت موجودة في القرآن الكريم ثم تم حذفها بأمر الله تعالى في حياة النبي ﷺ.
في تلك العرضة أيضا لم يقرأ النبي ﷺ القرآن الكريم بكل الكلمات المسموحة التي قرأ بها سابقا.
3- جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-
بعد وفاة النبي ﷺ ارتد الكثيرون عن الاسلام وصار بعضهم يتجرأ على محاربة المسلمين وهدم ما بناه النبي ﷺ وظهر من يدّعون النبوة كذبا وزورا، وهنا أبدى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- قوة عظيمة في قيادة المسلمين وتثبيت أسس الدين، وقامت حروب الردة التي اشتهرت منها معركة اليمامة بين المسلمين ومسيلمة الكذاب وأتباعه..
في معركة اليمامة استشهد عدد كبير من حُفَّاظِ القرآن الكريم، فرأى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه صار لزاما أن يتم جمع القرآن الكريم كاملا في مصحف واحد.. وبعد اقتناع أبي بكر - رضي الله عنه- بالأمر تم استدعاء زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه- أحد كُتَّاب الوحي ، وتم تكليفه بجمع القرآن الكريم في مصحف واحد.. كان الأمر صعبا جدا عليه فهي مسؤولية عظيمة.. ولأن القرآن الكريم أشرف كلام على الإطلاق فقد كان لزاما أن يكون جمعه مبنيا على منهجية علمية شديدة الدقة، ولهذا كان زيد - رضي الله عنه- يجمع القرآن الكريم من الحُفاظ ومن الوسائل التي كُتب عليها مفرقا (الجلود والعظام والألواح.. الخ) وفق شروط صارمة تتلخص فيما يلي:
أن تكون الآيات قد كُتِبت تحت إشراف النبي ﷺ.
أن يشهد شاهدان بأنها كُتبت بحضور النبي ﷺ.
أن تكون الآيات قد ثبتت في العرضة الأخيرة للنبي ﷺ وليست من الآيات المنسوخة.
وقد تميز هذا المصحف باحتوائه على جميع اللهجات التي قرأ بها النبي ﷺ، أي أن النطق بكل اختلافاته المسموحة تمت كتابته في هذا المصحف، ولنضرب مثالا لنفهم هذا: كلمة "كتابك" كان بعض العرب ينطقونها "كتابك"، والبعض ينطقونها "كتابس" والبعض ينطقونها "كتابش" وقد قرأ بها النبي ﷺ كلها.. في مصحف أبي بكر - رضي الله عنه- لم تُكتَب كلمة "كتابك" فقط بل تمت كتابة النطق أيضا، أي تمت كتابة "كتابك" و"كتابس" و"كتابش".
كما تميز هذا المصحف باحتوائه على جميع الكلمات التي قرأ بها النبي ﷺ ولنضرب مثالا أيضا لنفهم: النبي ﷺ قرأ ((فاذنوا بحرب من الله)) وقرأها أيضا ((فأيقنوا بحرب من الله)).. قرأ ((اهدنا الصراط المستقيم)) وقرأها أيضا ((ارشدنا الصراط المستقيم)).. كل هذه القراءات وغيرها الكثير مما قرأ به النبي ﷺ تمت كتابته في مصحف ابي بكر - رضي الله عنه-
إذن تضمن هذا المصحف كتابة كل النطق + الكلمات التي تقرأ بها النبي ﷺ في حياته.
بعد أن أنهى زيد - رضي الله عنه- كتابة القرآن الكريم كاملا في مصحف واحد ضخم تم الاحتفاظ بهذا المصحف في بيت أبي بكر الصديق ثم انتقل بعد وفاته إلى بيت عمر بن الخطاب ثم انتقل بعد استشهاده إلى بيت حفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم جميعا-
4- جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
كان حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - في جهاد لفتح إرمينية وأذربيجان، وهنالك وجد بعض المسلمين الأعاجم يخطئون في القراءة خاصة وأنه لا يوجد مصحف مرجعي عندهم ليعودوا إليه ويضبطوا قراءتهم. عندما عاد إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه- أخبره بذلك، وهنا قرر عثمان كتابة نُسَخٍ من المصحف الذي كتبه زيد سابقا في عهد أبي بكر - رضي الله عنهم- وكلف بذلك 4 من الصحابة هم: عبد الله بن الزبير، سعيد بن العاص، عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم أجمعين-
اختلف مصحف عثمان عن مصحف أبي بكر - رضي الله عنهما- في 4 أمور:الأول أن مصحف عثمان لم يتضمن كتابة كل اللهجات بل تضمن كتابة لهجة قريش فقط. لنأخذ نفس الأمثلة السابقة ليتضح الفرق: كلمة "كتابك" تنطق عند العرب "كتابك" و"كتابس" و"كتابش" لذلك في مصحف أبي بكر كُتِبَت "كتابك" و"كتابس" و"كتابش"، أي كتبت كل أنواع النطق التي قرأ بها النبي ﷺ .. لكن في مصحف عثمان كُتِب نطق قريش فقط، لا تقول قريش "كتابس" ولا "كتابش" بل تقول "كتابك" إذن كُتِبَت "كتابك" فقط. ولأن عثمان - رضي الله عنه- هو من ألزم اللجنة بكتابة نطق قريش كون القرآن الكريم نزل بلغتها، سُمِّي رسم المصحف بعد هذا الإلزام والتحديد بالرسم العثماني.
مصحف عثمان لم يتضمن كل الكلمات التي قرأ بها النبي ﷺ، إنما تضمن الكلمات التي قرأ بها في العرضة الأخيرة + التي يحتملها رسم العرضة الأخيرة، ولنأخذ كالعادة مثالا لنفهم: كلمة "صيحة" وكلمة "زقية" لا تُكتَبان بنفس الطريقة، لا يمكن أن نكتب كلمة "صيحة" ونتمكن من قراءتها "زقية" لأنهما مختلفتان تماما لهذا نقول أن رسم كلمة "صيحة" لا يحتمل أن نقرأها "زقية"، وإذا كان النبي ﷺ مثلا قد قرأ في العرضة الأخيرة "صيحة" فقد كُتِبت في مصحف عثمان كلمة "صيحة" فقط دون كلمة "زقية".. بينما كلمة "فتبينوا" بدون تنقيط يمكن أن نضع عليها النقاط بحيث تُقرأ "فتبينوا" ويمكن أن نضع النقاط بطريقة مختلفة فتُقرَأ "فتـثـبـّـتوا" دون أن يتغير رسم الكلمة، لهذا نقول أن رسم هذه الكلمة يحتمل أن تُقرَأ بالطريقتين.
في مصحف عثمان تم إخلاء الكلمات من التنقيط والشكل، ما يعني أن الكتابة في مصحف أبي بكر كانت بالتنقيط والشكل بطريقة معينة خاصة وأنه تضمن كل الكلمات الممكنة التي قرأ بها النبي ﷺ والتي يتشابه رسمها.
أضاف عثمان – رضي الله عنه- إلى المصحف بعض الاختلافات التي قرأ بها النبي ﷺ ولم تتضمنها العرضة الأخيرة مثل: سارعوا / وسارعوا.. فلا يخاف عقباها / ولا يخاف عقباها.. ووزعها على نُسَخ المصاحف فكتب في بعضها مثلا "سارعوا" وكتب في البعض الآخر "وسارعوا".. الخ
بعد أن أنهت اللجنة كتابة نسخ المصحف بتلك الشروط اعتمادا على مصحف أبي بكر - رضي الله عنه- تم إرسال كل مصحف إلى واحدة من بقاع المسلمين الرئيسية مع قارئ متقن يعلم الناس، وبهذا صار للمسلمين في كل البلاد مصحف مرجعي صحيح دقيق ومقرئ يتعلمون منه، وأمر عثمان - رضي الله عنه- بإحراق ما عداها من مصاحف كتبها الناس من قبل.
قصة القرآن الكريم ممتعة ومذهلة حقا، مممم بقي لنا أمر واحد فقط: كيف صارت لدينا عشر قراءات؟
5- ما معنى رواية ورش وحفص وقالون و..؟
كان القرآن الكريم ينزل على النبي ﷺ متفرقا على مدار 23 سنة بكل اللهجات والكلمات المسموحة كما ذكرنا سابقا، وكان ﷺ يقرأ كل مرة بشكل مختلف، يقرأ مثلا في صلاة ما بالإمالة كما تقرأ قبيلة ما، وفي صلاة أخرى بالفتح كما تقرأ قبيلة أخرى، في مجلس ما يقرأ "فتبينوا" وفي آخر "فتثبتوا" وقس على ذلك كل الاختلافات المسموحة المتعددة، ما يعني أنه قرأ بعشرات القراءات على مدار حياته الشريفة. وكان الواحد من الصحابة يسمع عنه كل مرة أداء وكلمات فيختار مما سمع وتعلم منه ويركبُ قراءته:
- صحابي يختار مثلا النطق بالإمالة + نطق "كتابك" + كلمة فتبينوا..
- صحابي آخر يختار مثلا النطق بالإمالة + نطق "كتابس" + كلمة فتثبتوا..
- صحابي ثالث يختار مثلا النطق بالفتح + نطق "كتابش" + كلمة فتثبتوا..
ولكم ان تتخيلوا عدد القراءات التي يمكن تركيبها من هذا المثال البسيط، فكيف بعدد هائل من الكلمات وطرق النطق التي تضمنتها أكثر من 6000 آية في القرآن الكريم كله! سيكون عددا كبيرا من التركيبات الممكنة ضمن تلك الخيارات المسموحة من رب العالمين.
كان الصحابة يقرؤون بهذه الطريقة ويركبون مما تعلموه عن النبي ﷺ ثم يتعلم عنهم الجيل التالي فيسمعون من صحابي تراكيبه ومن صحابي آخر تراكيب أخرى فيركبون قراءات مما تعلموه، ومع مرور الوقت ظهر في جيل التابعين وتابعي التابعين علماء تفرغوا للقراءة وحدها فتعلموا عن الصحابة والتابعين وعلموا غيرهم وبرز منهم علماء كبار ذاع صيتهم في العالم الإسلامي هم:
1- الإمام نافع في المدينة
2- الإمام ابن كثير المكي (=/= ابن مثير المفسر) في مكة
3- الإمام أبو عمرو البصري في البصرة
4- الإمام ابن عامر الشامي في المسجد الأموي
5- الإمام عاصم في الكوفة
6- الإمام حمزة في الكوفة
7- الإمام الكسائي في الكوفة
8- الإمام أبو جعفر المدني في المدينة
9- الإمام يعقوب الحضرمي في البصرة
10- الإمام خلف في الكوفة
كل إمام من هؤلاء الأئمة الأفاضل علّم أعدادا كبيرة من التلاميذ كل منهم أعطاه أوجه قراءة متعددة، برز منهم تلاميذ لامعون رووا عن اساتذتهم كيفية قراءتهم وهم بدورهم علموا عدد كبيرا من التلاميذ وهكذا..
عندما بدأ الضبط في القراءة يقل أتى العالم المقرئ أبو عمرو الداني ونظم القراءات في شكل هرمي بحيث اختار لكل إمام من الأئمة ال7 الأوائل تلميذين، ولكل تلميذ منهم اختار تلميذين أيضا، وألفا كتابا يشرح كيفية قراءتهم ليلتزم كل من يريد تعلم قراءة القرآن الكريم بالطرق التي قرأوا بها بدل ان يقوم يتركيب قراءته الخاصة ويكثر الضعف في الضبط والإتقان.
ثم أتى العالم ابن الجزري فأضاف على الأئمة السبعة الأوائل 3 أئمة آخرين لم يقلوا بروزا وأهمية عنهم وبهذا صار عدد الأئمة القراء الأكثر بروزا وإتقانا 10 أئمة لذلك نقول بأن هنالك 10 صحيحة محفوظة بسند متصل (أي بسلسلة مترابطة تصل إلى النبي ﷺ) وصلت إلينا بالتواتر (أي أنها كانت معروفة شائعة عند جموع المسلمين نقلوها جيلا بعد جيل حتى وصلت إلينا). ولضبط العلم أكثر، سُمِّيَت طبقة القراء العشرة ب"القراءة"، وطبقة تلاميذهم "الرواية"، وطبقة تلاميذ التلاميذ "الطريق". وبما أننا ندرس أحكام الترتيل عن طريق الأزرق، الذي كان من أبرز تلاميذ شيخه ورش، الذي تعلم بدوره عن الإمام نافع وروى عنه قراءته، نقول بأننا:
نقرأ برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق
6- لنتحدث قليلا عن هؤلاء الأئمة الثلاث الرائعين:
البداية مع الإمام القارئ نافع، هو الإمام نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، ويُكًنَّى بأبي رُوَيْم. ولد سنة 70 هـ، أصله من أصبهان (إيران)، نشأ بالمدينة المنورة وقرأ على 70 من التابعين، وصلى في مسجدها إماما مدة 60 سنة. كان عالما زاهدا أسود البشرة، جميل الخُلُق، صبوح الوجه، يُسأل عن سر نوره ذاك فيجيب بأنه رأى في منامه أنه صافح النبي ﷺ وقرأ عليه القرآن الكريم ! وكان إذا تلكم تُشَمُّ من فمه رائحة المسك، يُسأل عن سر ذلك فيجيب بأنه ما يضع طيبا، لكنه رأى النبي ﷺ يقرأ القرآن في فيه (أي فمه)، وأنه منذ ذلك الوقت صار يشم هذه الرائحة الطيبة من فمه!
قرأ عليه الإمامُ مالك صاحب المذهب المالكي، أي أنه كان من تلاميذه، وكان إذا سُئِل عن البسملة قال "سلوا عن كل علم أهلَه ونافع إمام الناس في القراءة" كان يجتمع حوله عدد كبير من الطلبة ليقرأوا عليه، وكان من عادته - كعادة الشيوخ المقرئين - أن يبدأ بالقراءة من يدخل أولا.. ومن كثرة عدد الطلبة كان يحدد لكل طالب 30 آية يقرؤها ليتمكن من إعطاء الفرصة للجميع.
سافر ذات يوم إليه شاب مصري قبطي يُدعى عثمان بن سعيد، قطع تلك المسافة من مصر إلى المدينة فقط ليقرأ عليه القرآن الكريم ثم يعود إلى بلده ليعلِّم القراءة لغيره.. دخل عليه وهو في المسجد فوجد حوله جمعا غفيرا من الطلبة كل منهم يقرأ ثلاثين آية في الجلسة.. أدرك بأنه في هذه الحالة قد يطول به المكوث في المدينة حتى يتمكن من ختم القراءة، فقصد رجلا ممن يحبهم الإمام نافع ويُكِنُّ لهم الاحترام ليتواسط له عنده، عندها طلب منه الإمام نافع أن يبيت في المسجد.. وفي فجر الغد، جلس الإمام نافع للدرس وبدأ بالشاب المصري أولا لأنه أول من دخل من الطلبة إلى المسجد كونه قد بات فيه، وبعد أن أنهى عثمان، الشاب المصري، قراءة 30 آية، قام شاب من الحلقة وتنازل له عن جزء من حصته في الآيات كرما ولطفا به لأنه قدم من بعيد، ثم قام آخر وآخر حتى لم يبق في الحلقة زميل إلا وقد تقاسم معه من حصته! وهكذا تمكن عثمان من ختم القرآن الكريم على شيخه، بل وتمكن من قراءة العديد من الختمات! يا جمال الإيثار والمحبة والبركة الربانية التي تغشى من يسعى في طلب العلم!
كان عثمان بن سعيد حسن الصوت يحب المدود، إذا قرأ صدح صوته في أركان المسجد النبوي الشريف! وكان الإمام نافع يشبِّهه بطائر اسمه "ورشان"، ومن كثرة تكراره أحبه عثمان فصار يُلَقَّبُ بـ "ورش".. نعم، هو الإمام ورش - رحمه الله - ♥
بعد أن قرأ الإمام ورش عدة ختمات على شيخه نافع وأجازه، عاد إلى مصر ليعلِّم الناس ويبلغ القراءة، وكان من تلاميذه المميزين أبو يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار المدني ثم المصري، الملقب بالأزرق. كان الإمام الأزرق ثقة محققا ضابطا، لزم الإمام ورشا مدة طويلة وقرأ عليه عشرين ختمة حتى أتقن عنه الأداء وخَلَفَه في الإقراء بالديار المصرية، تعلم على يديه تلاميذ علموا غيرهم جيلا بعد جيل حتى وصلت السلسلة إلينا ♥
هذا القرآن العظيم بُذِلَ لأجله الكثير، ومن طلبوا العُلَى ما ركنوا إلى الراحة والفراغ، بل جدوُّا واجتهدوا وسافروا وحرصوا على تلقي العلم من مصادره بالضبط والإتقان وقد فتح الله تعالى عليهم من البركات والفضل الكثير، ثم هم أخذوا المشعل عن شيوخهم وعلموا الناس ما تعلموه لأن زكاة العلم تبليغه.. يقول الإمام مسلم صاحب الصحيح: "لا يُسْتطاع العلم براحة الأجسام"..
بعد الذي عرفناه هنا، لا يليق أن تصل السلسلة إلينا بهذه الروعة ثم تقف أو تنقطع عندنا.. بعد الذي عرفناه هنا، حريٌّ بنا أن نشمر عن ساعد الجد ونرتقي على سلم المعالي، لنكون على خطى أولئك الرائعين من الصحابة والتابعين والعلماء ومن تبعهم بإحسان، ولنتذوق ما تذوقوا من حلاوة وندخل جنة الدنيا ♥
وتوتة توتة خلصت الحدوتة 😊
ملخص
اللغة = لهجة (نطق) + كلمات
القرآن الكريم كُتِبَ كاملا في عهد النبي ﷺ وبحضوره.
القرآن الكريم كُتِب متفرقا على الجلود والعظام وأوراق النخيل.. إلخ
ترتيب الآيات والسور حدده رب العالمين (= توقيفي) وليس البشر.
رسم المصحف (= إملاءه) حدده رب العالمين (= توقيفي) وليس البشر.
طريقة القراءة والخيارات المتاحة حددها رب العالمين (توقيفية) وليس البشر.
تعلم القرآن الكريم يتم بالاستماع من قارئ متقن يلقنك وتأخذ عنه أدق التفاصيل حتى حركات الشفاه أثناء النطق، ثم تقوم بحفظ ما لقنك إياه.
تم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد أبي بكر - رضي الله عنه- وتضمن كتابة كل اللهجات + الكلمات التي قرأ بها النبي ﷺ
تمت كتابة نسخ من المصحف الشريف في عهد عثمان بن عفان اعتمادا على مصحف أبي بكر - رضي الله عنهما- مع الالتزام بكتابة نطق قريش فقط + الكلمات التي يحتملها رسم العرضة الأخيرة + بعض الكلمات المحددة التي لم تتضمنها العرضة الأخيرة
كان الصحابة يركبون قراءاتهم من مجموع القراءات المتنوعة التي قرا بها النبي ﷺ
كان التابعون يركبون قراءاتهم من مجموع القراءات المتنوعة التي قرا بها الصحابة الذين تعلموا منهم ونفس الشيء قام به تلاميذهم من تابعي التابعين.
قام علماء القراءة بتحديد 10 قراء أئمة بارزين مع تحديد أبرز تلاميذهم وتحديد الأوجه التي قرأوا بها ليلتزم كل من يريد قراءة القرآن الكريم بطرقهم في القراءة تنظيما وتفاديا لقلة الضبط.
هذه القراءات وصلت إلينا بالتواتر، لذلك هي صحيحة لا مجال للشك فيها.
طبقة القراء تسمى "القراءة"، طبقة تلاميذهم تسمى "الرواية"، وطبقة تلاميذ التلاميذ تسمى "طريقا".
الإمام نافع قرأ على 70 من التابعين، درّس في المدينة المنورة وأقرأ الكثير من التلاميذ، وقد كانت تفوح من فمه رائحة المسك إذا تكلم بسبب رؤياه للنبي ﷺ في المنام.
الإمام عثمان بن سعيد الملقب بورش سافر من مصر إلى المدينة المنورة ليقرأ على الإمام نافع، تميز بالصوت الجميل والمد في القراءة، بعدما قرأ على الإمام نافع عدة ختمات عاد إلى مصر وعلّم الناس.
الإمام أبو يعقوب يوسف بن عمرو الملقب بالأزرق لازم الإمام ورشا في مصر وقرأ عليه عشرين ختمة ثم خلَفَه في الإقراء في الديار المصرية.
سبحان من خصص للقرآن الكريم علماء يبرزون في كل عصر كل منهم يؤدي دورا هاما في خدمته والعناية به وبعلومه، هو محفوظ حقا من رب السماء ((إنّا نحن نزّلنا الذِّكر وإنّا له لحافظون)).. جعلنا الله ممن يسيرون على نهج العلماء الأفذاذ.. قولوا آمين ♥
♥♥ يمكنكم تحميل الدرس بصيغة pdf من هنا ♥♥
المراجع
- محاضرة د. ماجد شمسي باشا على اليوتيوب بعنوان: ماهي القراءات العشر؟ ومن هم القراء || تعريفات وشرح علم القراءات || د. ماجد شمسي باشا – مصطفى شلحاوي
- محاضرة د. ماجد شمسي باشا على اليوتيوب بعنوان: التعريف بالطرق العشر النافعية المغربية (العشر النافعي الصغير) – د. ماجد حسان شمسي باشا
- محاضرة د. ماجد شمسي باشا على اليوتيوب بعنوان: تاريخ القرآن الكريم وأبزر الشبهات والردود - الشيخ الطبيب د. ماجد حسان شمسي باشا
- محاضرة الشيخ سعيد البوطي - رحمه الله- على اليوتيوب بعنوان: علوم القرآن الكريم | أسباب النزول | كيفية جمع القرآن وكتابته.
- محاضرة الشيخ سعيد البوطي - رحمه الله- على اليوتيوب بعنوان: علوم القرآن الكريم | كيفية جمع القرآن وكتابته | رسم القرآن الكريم.
- محاضرة الشيخ سعيد البوطي - رحمه الله- على اليوتيوب بعنوان: علوم القرآن الكريم | ما هي الأحرف السبعة وهل تختلف عن القراءات العشر؟
- محاضرة الأستاذ عبد الله سيليني على اليوتيوب بعنوان: دروس الرسم العثماني | الدرس الأول - جمع القرآن.
- كتاب أنوار المطالع في أصول رواية ورش عن نافع – تأليف أ. الزهرة بلعالية دومة.
- درس الشيخ أيمن السويد على اليوتيوب بعنوان: تعريف القرآن وكيفية وصوله إلينا (الدرس الأول).
- درس الشيخ سعيد الكملي على اليوتيوب بعنوان: شرح جميل ومفصل لحديث "إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف"
- درس الشيخ أيمن السويد على اليوتيوب بعنوان: الفرق بين القراءة والرواية والطريق.
- مقدمة درس الشيخ أيمن السويد على اليوتيوب بعنوان: التلاوة الصحيحة برواية ورش عن نافع الحلقة (1) التعريف بالإمام نافع.
- درس الشيخ أيمن السويد على اليوتيوب بعنوان: ورش عثمان بن سعيد وأبو يعقوب الأزرق، شموس القراء.
مراجعة علمية: د. ماجد شمسي باشا
د. ماجد شمسي باشا طبيب سوري اختصاصي أول في الأمراض الباطنية، حاصل على الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، مقرئ بالقراءات الأربع عشرة والطرق العشر النافعية وباحث في علوم الأديان واللاهوت الكنسي.
تعليقات
إرسال تعليق