القائمة الرئيسية

الصفحات

يوم العلم.. لم أكن أعرف ابن باديس..!

 

يوم العلم.. لم أكن أعرف ابن باديس..

يوم العلم.. لم أكن أعرف ابن باديس..!

     "السادس عشر من أفريل.. ولد ابن باديس في.. تعلم في.. أسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والعديد من المدارس... توفي رحمه الله في ..."

لا أدري إن وصلتك مشاعر معينة تشبه المشاعر التي أعيشها كل يوم علم، مشاعر المعرفة بمعلومات مألوفة عن شخص هام جدا نعلم يقينا أنه رائد النهضة الجزائرية التي أثمرت فيما بعد ثورة التحرير.. مشاعر مشتركة عامة نعيشها كل عام، كل سادس عشر من أفريل.. لكن هذه المرة، بالنسبة لي، كان الأمر مختلفا.. مختلفا جدا!!


لأول مرة أعيش عمق ذكرى يوم العلم! لأول مرة تختلف مشاعري تجاه هذا اليوم، مشاعر حقيقية أكثر من أي وقت مضى!

كان يوما -على قصر فتراته التعلمية- يوما ثقيلا، ثقيلا بمعناه الإيجابي لعِظم ما حمله من علم ومعايشة واقعية لأماكن جعلتني أشعر بروح ابن باديس في خشب ذلك الكرسي وأرض ذلك المسجد وزاوية تلك المقصورة!


     بدأت دهشتي حين تحدث الشيوخ والأساتذة الأفاضل عن ابن باديس بشكل مختلف عما أعرفه.. لم يكن حديثا عن محطات تاريخية بل كان غوصا عميقا في عقله، في شخصيته ومنهجه، كان حديثا تحليليا جعل بعض تفاصيل تلك النفس العظيمة مفروشة أمامنا، أقرب إلى أرواحنا، أكثر اختراقا لإدراكنا، كأننا قد خضنا رحلة سريعة داخل ذلك الإنسان! أعترف أنني لم أكن أستوعب عظمته وعبقريته حتى حضرت ندوة اليوم..!


كانت أغلب محاور الندوة تدور حول علاقته بالقرآن الكريم فهما وتطبيقا، أُعجِبت بذكائه وروحه الفنانة في الجمع بين ما يبدو الجمع بينه مستحيلا إذ كان تعليمه سهلا ممتنعا يجمع بين النزول إلى عقول من يخاطبهم فيبسط كي يفهموا، ويرفعهم في ذات الوقت إلى مستوى عالٍ بفضل لغة خطابه التي التزم فيها باللغة العربية! أُعجِبتُ بحكمته إذ كان يعتمد مبدأ الانتقاء لا ينزل بكل العلم إلى الجميع بل يخاطب كلًّا على قدر عقله ❤ أُعجِبتُ بانفتاحه على كل المفسرين الأوائل إذ أخذ ممن اعتمدوا مبدأ النقل وممن اعتمدوا مبدأ العقل مستثمرا في كل خير يجده تاركا الخطأ الذي يشوبه جامعا بين المنهجين وفق قاعدة "العقل ليس خصيم النقل، إنما العقل قسيم النقل" أي أنهما متكاملان يؤخذ من كليهما ما كان سويا صحيحا..


أُعجِبت بطريقة استقرائه للآيات يُمَرِّرُ عليها معطيات واقعه ومشكلات مجتمعه باحثا عما يمكن أن تقوله الآيات فيها وما يمكن أن تقدِّمه من مفاتيح! كيف استنبط من آية ((وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)) قاعدة أن الحياة يتقدم فيها من امتلك أسباب القوة والإبداع ما يعني أن المؤمن لابد أن يكون قويا لا درويشا، يقظا لا نائما! كيف استنبط من آية ((قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)) عتابا للشعب الجزائري كيف للنملة أن تهتم بشأن إخوانها تحذرهم مما يهلكهم وتحرص على سلامتهم ويغفل الانسان المكرم عن هذا الفعل الشريف مع مجتمعه! كيف استنبط من آية ((وتفقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ))  مبادئَ القيادة الرشيدة المجتمعة في ثلاث أسس: الإفهام (وحدة التصور لدى فرق العمل)، التفقّد والتواصل المستمر، والقيادة التشاركية والمسؤولية إذ ألقى باللوم على نفسه أولا ((مالي)) .. ذلك الفهم المتميز والاسقاط الواقعي جعلني أتعرف لأول مرة على عبقريته وذاته الحقيقية! او بالأحرى أدرك أن الجزائر أنجبت جوهرة عالمية لم نُعطِها حقها من الاكتشاف والاهتمام والعناية بإرثها العلمي! ثم هو مع القرآن الكريم في علاقة مستمرة تفاعلية يتخذه منطلقا له وغاية، أدرَك أنه باعث للحياة لو فُهِمَ وطُبِّق، فانطلق مفسرا له يبني به العقيدة والفكر والسلوك الذي أخرج لنا فيما بعد جيلا فجّر ثورة التحرير باعتراف المستعمر نفسه..!


كانت مداخلاتٍ أشبه بعُصارات دسمة تمنيت لو أنها كانت مرفوقة بورشات عمل تطبيقية تحاكي المنهج الباديسي تسقطه على واقعنا لتحلله وتضع الحلول، لنخرج بخطوات عملية مطبقين بحق المنهج الباديسي الرابط بين العلم والعمل، تماما كما قال أحد العلماء -يغيب عني اسمه- "قد وجدنا حلولا لزماننا فجدوا حلولا لزمانكم".. مداخلات جعلتني أرى وجه الجدية والجهد في يوم العلم بدل وجه الاحتفالات الممجدة له كذكرى أو مفخرة دونما تفعيل حقيقي لروحه..


     خرجنا إلى المطبعة التي كان يطبع فيها جرائده، صوت الحق والوعي الذي سعى الاستعمار جاهدا لإخماده.. زرنا مسجد الجامع الأخضر الذي وجدناه مغلقا خاضعا هو الآخر للترميم.. ثم.. هنا بلغ الشعور ذروته..


 دخلنا مسجده "سيدي قموش" كرسيه الذي كان يجلس عليه ويستقبل زواره عليه،  وقبر جده الذي كان في ذات المقصورة! صعدنا الدرج إلى المصلى، هنالك حيث كان يجلس يلقي دروسه، حيث كان يعلّم طلبته دون كلل! هنالك في ذلك المحراب جلس وعلّم! وتلك النافذة تطلّ على غرفة صغيرة كان ينام فيها ويُحضِّر دروسه! لم أتمالك نفسي أن أجثو على ركبتي باكية كأنني أشمّ ريح روحه في ذلك المكان الخاشع! غير قادرة على استيعاب ما بلغه من بذل يلقي في اليوم 16 درسا في سبيل الله دونما مقابل واهبا نفسه للإسلام والجزائر حق الهبة لا بمجرد الكلام! أي نفس تلك التي حملها! تلك التي حملت همّ أمة فحاربت على كل جبهة يمكن أن يتغلغل منها المستدمر الغاشم! أي نفس تلك التي استطاعت أن تستمر على هذا النهج الصعب -الذي يحتاج عشرات الأنفس- إلى آخر حياتها! لم أدرِ هل فاضت دموعي دعاءً له أم حُزنا على المسافة الضوئية بين نفسه وأنفسنا أم شعورا بالخشوع بين يدي أرض وجدرانٍ شهِدت جهاده وتشبعت بنسائم نفسه أم أنها فاضت على كل ذاك! وددت لو أبقى هنالك أبكي أستفرغ ما بداخلي من أنهار دمع وآه..!


كان يومَ علمٍ مختلفا عن كل يومِ علمٍ آخر.. سِرت أطوي يدي سارحة في.. لا أدري في أي شيء.. تأملت الناس في شوارع المدينة بعين مختلفة عن كل تأمل سابق.. صادفت العم بياع المناديل الورقية مطأطئا رأسه كأنه متعب محبط مهموم.. حزنت لأجله.. اشتريت منه ودعوت له، تخيلت لو أن ابن باديس مكاني ما تركه إلا وقد سعى في حل مشكلته ورفع ملامح الحزن عن وجهه مثلما يمكن أن يفعل مع كلّ إنسان يكابد مشاق الحياة!


لم أكن أعرف ابن باديس.. واليوم بدأت أعرف.. لم أرغب في ركوب سيارة رغم قربها بل سرت طويلا سارحةً إلى أن ركبت الحافلة.. جلست أمسك حقيبتي، وضعت رأسي على النافذة.. ونمت..

نمت..


تعليقات

تجول بسهولة.. فهرس المقال🌹